كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والملحوظ دائمًا أن الأرباب الأرضية تحتاج ويحتاج معها سدنتها وعبادها أن يخلعوا عليها بعض صفات الألوهية من القدرة والعلم والإحاطة والقهر والرحمة.. أحيانًا.. كل ذلك ليدين لها الناس! فالربوبية تحتاج إلى ألوهية معها تخضع بها العباد! وهذا كله يحتاج إلى كد ناصب من السدنة والعبَّاد وإلى جهد ينفقه من يدينون لله وحده في عمارة الأرض والنهوض بتكاليف الخلافة فيها، بدلًا من أن ينفقه عبَّاد الأرباب الأرضية في الطبل والزمر والتراتيل والتسابيح لهذه الأرباب المفتراة!
ولقد تتوافر القوة لمن لا يحكّمون شريعة الله في قلوبهم ولا في مجتمعهم، ولكنها قوة إلى حين. تنتهي الأمور إلى نهايتها الطبيعية وفق سنة الله، وتتحطم هذه القوة التي لم تستند إلى أساس ركين. إنما استندت إلى جانب واحد من السنن الكونية كالعمل والنظام ووفرة الإنتاج.
وهذه وحدها لا تدوم. لأن فساد الحياة الشعورية والاجتماعية يقضي عليها بعد حين.
فأما إرسال المطر مدرارًا. فالظاهر للبشر أنه يجري وفق سنن طبيعية ثابتة في النظام الكوني. ولكن جريان السنن الطبيعية لا يمنع أن يكون المطر محييًا في مكان وزمان، ومدمرًا في مكان وزمان؛ وأن يكون من قدر الله أن تكون الحياة مع المطر لقوم، وأن يكون الدمار معه لقوم، وان ينفذ الله تبشيره بالخير ووعيده بالشر عن طريق توجيه العوامل الطبيعية؛ فهو خالق هذه العوامل، وجاعل الأسباب لتحقيق سنته على كل حال. ثم تبقى وراء ذلك مشيئة الله الطليقة التي تصرف الأسباب والظواهر بغير ما اعتاد الناس من ظواهر النواميس وذلك لتحقيق قدر الله كيفما شاء. حيث شاء. بالحق الذي يحكم كل شيء في السماوات والأرض غير مقيد بما عهده الناس في الغالب.
تلك كانت دعوة هود ويبدوا أنها لم تكن مصحوبة بمعجزة خارقة. ربما لأن الطوفان كان قريبًا منهم، وكان في ذاكرة القوم وعلى لسانهم، وقد ذكرهم به في سورة أخرى فأما قومه فظنوا به الظنون..
{قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء}.
إلى هذا الحد بلغ الإنحراف في نفوسهم، إلى حد أن يظنوا أن هودًا يهذي، لأن أحد آلهتهم المفتراة قد مسه بسوء، فأصيب بالهذيان!
{يا هود ما جئتنا ببينة}... والتوحيد لا يحتاج إلى بينة، إنما يحتاج إلى التوجية والتذكير، وإلى استجاشة منطق الفطرة، واستنباء الضمير.
{وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك}.. أي لمجرد أنك تقول بلا بينة ولا دليل!
{وما نحن لك بمؤمنين}.. أي مستجيبين لك ومصدقين.. وما نعلل دعوتك إلا بأنك تهذي وقد أصابك أحد آلهتنا بسوء!
وهنا لم يبق لهود إلا التحدي. وإلا التوجه إلى الله وحده والإعتماد عليه. وإلا الوعيد والإنذار الأخير للمكذبين. وإلا المفاصلة بينه وبين قومه ونفض يده من أمرهم إن أصروا على التكذيب: {قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دآبة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قومًا غيركم ولا تضرونه شيئًا إن ربي على كل شيء حفيظ}..
إنها انتفاضة التبرؤ من القوم وقد كان منهم وكان أخاهم وانتفاضة الخوف من البقاء فيهم وقد اتخذوا غير طريق الله طريقًا. وانتفاضة المفاصلة بين حزبين لا يلتقيان على وشيجة وقد انبتت بينهما وشيجة العقيدة.
وهو يشهد الله على براءته من قومه الضالين وانعزاله عنهم وانفصاله منهم.
ويشهدهم هم أنفسهم على هذه البراءة منهم في وجوههم؛ كي لا تبقى في أنفسهم شبهة من نفوره وخوفه أن يكون منهم!
وذلك كله مع عزة الإيمان واستعلائه. ومع ثقة الإيمان واطمئنانه!
وإن الإنسان ليدهش لرجل فرد يواجه قومًا غلاظًا شدادًا حمقى. يبلغ بهم الجهل أن يعتقدوا أن هذه المعبودات الزائفة تمس رجلًا فيهذي؛ ويروا في الدعوة إلى الله الواحد هذيانًا من أثر المس! يدهش لرجل يواجه هؤلاء القوم الواثقين بآلهتهم المفتراة هذه الثقة، فيسفه عقيدتهم ويقرعهم عليها ويؤنبهم؛ ثم يهيج ضراوتهم بالتحدي. لا يطلب مهلة ليستعد استعدادهم، ولا يدعهم يتريثون فيفثأ غضبهم.
إن الإنسان ليدهش لرجل فرد يقتحم هذا الاقتحام على قوم غلاظ شداد. ولكن الدهشة تزول عندما يتدبر العوامل والأسباب..
إنه الإيمان. والثقة. والاطمئنان.. الإيمان بالله، والثقة بوعده، والإطمئنان إلى نصره.. الإيمان الذي يخالط القلب فإذا وعد الله بالنصر حقيقة ملموسة في هذا القلب لا يشك فيها لحظة. لأنها ملء يديه، وملء قلبه الذي بين جنبيه، وليست وعدًا للمستقبل في ضمير الغيب، إنما هي حاضر واقع تتملاه العين والقلب.
{قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه}. إني أشهد الله على براءتي مما تشركون من دونه. واشهدوا أنتم شهادة تبرئني وتكون حجة عليكم: أنني عالنتكم بالبراءة مما تشركون من دون الله. ثم تجتمعوا أنتم وهذه الآلهة التي تزعمون أن أحدها مسني بسوء. تجمعوا أنتم وهي جميعًا ثم كيدوني بلا ريث ولا تمهل، فما أباليكم جميعًا، ولا أخشاكم شيئًا: {إني توكلت على الله ربي وربكم}..
ومهما أنكرتم وكذبتم. فهذه الحقيقة قائمة. حقيقة ربوبية الله لي ولكم. فالله الواحد هو ربي وربكم، لأنه رب الجميع بلا تعدد ولا مشاركة..
{ما من دابة إلا هو أخذ بناصيتها}..
وهي صورة محسوسة للقهر والقدرة تصور القدرة آخذة بناصية كل دابة على هذه الأرض، بما فيها الدواب من الناس. والناصية أعلى الجبهة. فهو القهر والغلبة والهيمنة، في صورة حسية تناسب الموقف، وتناسب غلظة القوم وشدتهم، وتناسب صلابة أجسامهم وبنيتهم، وتناسب غلظ حسهم ومشاعرهم.. وإلى جانبها تقرير استقامة السنة الإلهية في اتجاهها الذي لا يحيد: {إن ربي على صراط مستقيم}.. فهي القوة والاستقامة والتصميم. وفي هذه الكلمات القوية الحاسمة ندرك سر ذلك الإستعلاء وسر ذلك التحدي.. إنها ترسم صورة الحقيقة التي يجدها نبي الله هود عليه السلام في نفسه من ربه.. إنه يجد هذه الحقيقة واضحة.. إن ربه ورب الخلائق قوي قاهر: {ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها}.. وهؤلاء الغلاظ الأشداء من قومه إن هم إلا دواب من تلك الدواب التي يأخذ ربه بناصيتها ويقهرها بقوته قهرًا. فما خوفه من هذه الدواب وما احتفاله بها؛ وهي لا تسلط عليه إن سلطت إلا بإذن ربه؟ وما بقاؤه فيها وقد اختلف طريقها عن طريقه؟
إن هذه الحقيقة التي يجدها صاحب الدعوة في نفسه، لا تدع في قلبه مجالًا للشك في عاقبة أمره؛ ولا مجالًا للتردد عن المضي في طريقه.
إنها حقيقة الألوهية كما تتجلى في قلوب الصفوة المؤمنة ابدًا.
وعند هذا الحد من التحدي بقوة الله، وإبراز هذه القوة في صورتها القاهرة الحاسمة، يأخذ هود في الإنذار والوعيد: {فإن تولوا فقد ابلغتكم ما أرسلت به إليكم}..
فأديت واجبي لله، ونفضت يدي من أمركم لتواجهوا قوة الله سبحانه: {ويستخلف ربي قومًا غيركم}..
يليقون بتلقي دعوته ويستقيمون على هدايته بعد إهلاككم ببغيكم وظلمكم وانحرافكم.
{ولا تضرونه شيئًا}..
فما لكم به من قوة، وذهابكم لا يترك في كونه فراغًا ولا نقصًا..
{إن ربي على كل شيء حفيظ}..
يحفظ دينه وأولياءه وسننه من الأذى والضياع، ويقوم عليكم فلا تفلتون ولا تعجزونه هربًا! وكانت هي الكلمة الفاصلة. وانتهى الجدل والكلام. ليحق الوعيد والإنذار: {ولما جاء أمرنا نجينا هودًا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ}.
لما جاء أمرنا بتحقيق الوعيد، وإهلاك قوم هود، نجينا هودًا والذين آمنوا معه برحمة مباشرة منا، خلصتهم من العذاب العام النازل بالقوم، واستثنتهم من أن يصيبهم بسوء. وكانت نجاتهم من عذاب غليظ حل بالمكذبين. ووصف العذاب بأنه غليظ بهذا التصوير المجسم، يتناسق مع الجو، ومع القوم الغلاظ العتاة.
والآن وقد هلكت عاد. يشار إلى مصرعها إشارة البعد، ويسجل علهيا ما اقترفت من ذنب، وتشيع باللعنة والطرد، في تقرير وتكرار وتوكيد: {وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادًا كفروا ربهم ألا بعدًا لعاد قوم هود}..
{وتلك عاد}.. بهذا البعد. وقد كان ذكرهم منذ لحظة في السياق، وكان مصرعهم معروفًا على الأنظار.. ولكنهم انتهوا وبعدوا عن الأنظار والأفكار..
{وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله}..
وهم عصوا رسولًا واحدًا. ولكن أليست هي رسالة واحدة جاء بها الرسل جميعًا؟ فمن لم يسلم لرسول بها فقد عصى الرسل جميعًا. ولا ننسى أن هذا الجمع في الآيات وفي الرسل مقصود من ناحية أسلوبية أخرى لتضخيم جريمتهم وإبراز شناعتها. فهم جحدوا آيات، وهم عصوا رسلًا. فما أضخم الذنب وما أشنع الجريمة!
{واتبعوا أمر كل جبار عنيد}..
امر كل متسلط عليهم، معاند لا يسلم بحق، وهم مسؤولون أن يتحرروا من سلطان المتسلطين، ويفكروا بأنفسهم لأنفسهم. ولا يكونوا ذيولًا فيهدروا آدميتهم.
وهكذا يتبين أن القضية بين هود وعاد كانت قضية ربوبية الله وحده لهم والدينونة لله وحده من دون العباد.. كانت هي قضية الحاكمية والاتباع.. كانت هي قضية: من الرب الذي يدينون له ويتبعون أمره؟ يتجلى هذا في قول الله تعالى: {وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد}..
فهي المعصية لأمر الرسل والاتباع لأمر الجبارين! والإسلام هو طاعة أمر الرسل لأنه أمر الله ومعصية أمر الجبارين. وهذا هو مفرق الطريق بين الجاهلية والإسلام وبين الكفر والإيمان.. في كل رسالة وعلى يد كل رسول.
وهكذا يتبين أن دعوة التوحيد تصر أول ما تصر على التحرر من الدينونة لغير الله؛ والتمرد على سلطان الأرباب الطغاة؛ وتعد إلغاء الشخصية والتنازل عن الحرية، واتباع الجبارين المتكبرين جريمة شرك وكفر يستحق عليها الخانعون الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة. لقد خلق الله الناس ليكونوا أحرارًا لا يدينون بالعبودية لأحد من خلقه، ولا ينزلون عن حريتهم هذه لطاغية ولا رئيس ولا زعيم. فهذا مناط تكريمهم. فإن لم يصونوه فلا كرامة لهم عند الله ولا نجاة. وما يمكن لجماعة من البشر أن تدعي الكرامة، وتدعي الإنسانية، وهي تدين لغير الله من عباده. والذين يقبلون الدينونة لربوبية العبيد وحاكميتهم ليسوا بمعذورين أن يكونوا على أمرهم مغلوبين. فهم كثرة والمتجبرون قلة. ولو أرادوا التحرر لضحوا في سبيله بعض ما يضحونه مرغمين للأرباب المتسلطين من ضرائب الذل في النفس والعرض والمال.
لقد هلكت عاد لأنهم اتبعوا امر كل جبار عنيد.. هلكلوا مشيعين باللعنة في الدنيا وفي الآخرة: {وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة}..
ثم لا يتركهم قبل أن يسجل عليهم حالهم وسبب ما أصابهم في إعلان عام وتنبيه عال: {ألا إن عادًا كفروا ربهم}..
ثم يدعو عليهم بالطرد والبعد البعيد: {ألا بعدًا لعاد قوم هود}..
بهذا التحديد والإيضاح والتوكيد. كأنما يحدد عنوانهم للعنة المرسلة عليهم حتى تقصدهم قصدًا: {ألا بعدًا لعاد قوم هود}!!!
ونقف وقفات قصيرة أمام ما تلهمه قصة هود مع قومه في سياق هذه السورة، قبل ان ننتقل منها إلى قصة صالح. ذلك أن استعراض خط سير الدعوة الإسلامية على هذا النحو إنما يجيء في القرآن الكريم لرسم معالم الطريق في خط الحركة بهذه العقيدة على مدار القرون.. ليس فقط في ماضيها التاريخي، ولكن في مستقبلها إلى آخر الزمان. وليس فقط للجماعة المسلمة الأولى التي تلقت هذا القرآن أول مرة. وتحركت به في وجه الجاهلية يومذاك؛ ولكن كذلك لكل جماعة مسلمة تواجه به الجاهلية إلى آخر الزمان.. وهذا ما يجعل هذا القرآن كتاب الدعوة الإسلامية الخالد؛ ودليلها في الحركة في كل حين.
ولقد أشرنا إشارات سريعة إلى اللمسات القرآنية التي سنعيد الحديث عنها كلها تقريبًا.. ولكنها مرت في مجال تفسير النصوص القرآنية مرورًا عابرًا لمتابعة السياق. وهي تحتاج إلى وقفات امامها أطول في حدود الإجمال:
* نقف أمام الدعوة الواحدة الخالدة على لسان كل رسول وفي كل رسالة.. ودعوة توحيد العبادة والعبودية لله، المتمثلة فيما يحكيه القرآن الكريم عن كل رسول: {قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}.. ولقد كنا دائمًا نفسر العبادة لله وحده بأنها الدينونة الشاملة لله وحده. في كل شأن من شؤون الدنيا والآخرة. ذلك أن هذا هو المدلول الذي تعطيه اللفظة في أصلها اللغوي.. فإن عبد معناها: دان وخضع وذلل. وطريق معبد طريق مذلل ممهد. وعبّده جعله عبدًا أي خاضعًا مذللًا.. ولم يكن العربي الذي خوطب بهذا القرآن اول مرة يحصر مدلول هذا اللفظ وهو يؤمر به في مجرد أداء الشعائر التعبدية. بل إنه يوم خوطب به أول مرة في مكة لم تكن قد فرضت بعد شعائر تعبدية! إنما كان يفهم منه عندما يخاطب به ان المطلوب منه هو الدينونة لله وحده في أمره كله؛ وخلع الدينونة لغير الله من عنقه في كل أمره.. ولقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العبادة» نصًا بأنها هي الاتباع وليست هي الشعائر التعبدية. وهو يقول لعدي ابن حاتم عن اليهود والنصارى واتخاذهم الأحبار والرهبان أربابًا: «بلى. إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال. فاتبعوهم. فذلك عبادتهم إياهم». إنما أطلقت لفظة العبادة على الشعائر التعبدية باعتبارها صورة من صور الدينونة لله في شأن من الشؤون.. صورة لا تستغرق مدلول العبادة بل إنها تجيء بالتبعية لا بالأصالة! فلما بهت مدلول الدين ومدلول العبادة في نفوس الناس صاروا يفهمون أن عبادة غير الله التي يخرج بها الناس من الإسلام إلى الجاهلية هي فقط تقديم الشعائر التعبدية لغير الله، كتقديمها للأصنام والأوثان مثلًا! وأنه متى تجنب الإنسان هذه الصورة فقد بعد عن الشرك والجاهلية وأصبح مسلمًا لا يجوز تكفيره! وتمتع بكل ما يتمتع به المسلم في المجتمع المسلم من صيانة دمه وعرضه وماله... إلى أخر حقوق المسلم على المسلم!
وهذا وهم باطل، وانحسار وانكماش، بل تبديل وتغيير في مدلول لفظ العبادة التي يدخل بها المسلم في الإسلام أو يخرج منه وهذا المدلول هو الدينونة الكاملة لله في كل شأن ورفض الدينونة لغير الله في كل شأن. وهو المدلول الذي تفيده اللفظة في أصل اللغة؛ والذي نص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم نصًا وهو يفسر قول الله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله} وليس بعد تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم لمصطلح من المصطلحات قول لقائل.
هذه الحقيقة هي التي قررناها كثيرًا في هذه الظلال وفي غيرها في كل ما وفقنا الله لكتابته حول هذا الدين وطبيعته ومنهجه الحركي. فالآن نجد في قصة هود كما تعرضها هذه السورة لمحة تحدد موضوع القضية ومحور المعركة التي كانت بين هود وقومه؛ وبين الإسلام الذي جاء به والجاهلية التي كانوا عليها؛ وتحدد ما الذي كان يعنيه وهو يقول لهم: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}.. إنه لم يكن يعني: يا قوم لا تتقدموا بالشعائر التعبدية لغير الله! كما يتصور الذين انحسر مدلول العبادة في مفهوماتهم، وانزوى داخل إطار الشعائر التعبدية! إنما كان يعني الدينونة لله وحده في منهج الحياة كلها؛ ونبذ الدينونة والطاعة لأحد من الطواغيت في شؤون الحياة كلها.. والفعلة التي من أجلها استحق قوم هود الهلاك واللعنة في الدنيا والآخرة لم تكن هي مجرد تقديم الشعائر التعبدية لغير الله.. فهذه صورة واحدة من صور الشرك الكثيرة التي جاء هود ليخرجهم منها إلى عبادة الله وحده أي الدينونة له وحده إنما كانت الفعلة النكراء التي استحقوا من أجلها ذلك الجزاء هي: جحودهم بآيات ربهم، وعصيان رسله. واتباع أمر الجبارين من عبيده: {وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد}. كما يقول عنهم أصدق القائلين الله رب العالمين..